المدخل: تطور مناهج الدراسة عن أهل البيت(ع) خلال قرن واحد
تطور البحث والتحقيق والكتابة حول حياة الأئمة(عليهم السلام) بما فيها حياة الإمام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام) منذ مطلع القرن العشرين، وقد ساهم الباحثون بإنجاز أعمال علمية فريدة لإخراج تراثه المحبوس في داخل الموسوعات المطوّلة والمخطوطات، ذلك التراث الذي لم ير النور لولا تلك الجهود الذي بذلت بعناء.
والمتتبّع لهذه الكتابات سيجد رغم تعدد منطلقات واختلاف رؤى وأهداف مؤلّفيها قد اتصفت مبادرتها الاُولى بالعرض السردي الذي يغلب عليه الطابع القصصي عن حياة الإمام، ثم أعقبتها كتابات موسوعية تتحدث عمّا جاء عن الإمام، واعتنت بحفظ تراثه موزعاً ضمن أبواب، تلتها بعد ذلك كتابات وصفية دفاعية تحاول انتقاء النصوص التي تُبرز صفات الإمام، ثم نظمها بمنهج، يختاره الكاتب حسب ذوقه، ورافقتها كتابات اُخرى انتهجت العرض العبقري، أي طرح النموذج البطل الذي لا يقارن فيه أحد من حيث انجازاته ومفاخره العلمية وتأسيسه لبعض العلوم كالكيمياء والطب والإحياء والفقه والاصول والفلسفة وغيرها، ثم ارتقت الجهود والأنشطة التحقيقية حول الإمام، فتناولت حياته بالدراسة والتحليل إلاّ إنها تجزيئية في تحليلها، تتحرك بحدود النص وتفكيكه بلغة حديثة، وتداخلت مع تلك الجهود أيضاً جهود كتابية ذات إطار مذهبي بحت بالإمام، وشذبت حياته ليكون قائداً للمذهب فحسب، أو رئيساً له فسلطت الضوء على حياته بالمقارنة مع أئمة المذاهب الاُخرى. فتركت انطباعاً يصاحبه جهد يجرّ به (عليه السلام) في زاوية يجعله مكافئاً لغيره من أرباب المذاهب. جاء هذا التكريس بدافع من الواقع الموضوعي وتأثيراته على ذهن الكاتب، الواقع الذي قسّم المسلمين الى شيعة وسنّة أو قل الى مذاهب، ممّا جاءت الدراسات مستجيبة له، فتقوقعت تحت ظل تلك العناوين.
بعد ذلك وتبعاً للنهضة الإسلامية النامية، ارتقت الكتابة التأريخية حول الأئمة بما فيهم الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) ضمن بُنية صيغت مع باقي الأئمة; باعتبارهم(عليهم السلام)قد مارسوا أدواراً إلهية في عدد من المراحل، تخضع لمخطط مدروس يستهدف تربية الاُمة ويحافظ على الرسالة من جهة ثانية.
ولم يتعمّق هذا المنهج الذي فتحه السيد الشهيد الصدر(قدس سره) في محاضراته التي نشرت باسم (أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف)(1)لأجل اعطاء ثماره، فبقيت بحوثه يتيمة، تفتقر الى الإضافة والتجديد، ظهرت بعد فترة ركود أصابت الابداع كتابات انطلقت من ذلك النهج مثل الإنجاز الذي قدمه السيد محمد باقر الحكيم في كتابه: (دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة) ثم بادر السيد منذر الحكيم هو الآخر بانجاز يماثله من حيث التطوير، في مشروعه سلسلة أعلام الهداية الصادر عن المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) ، وللأسف قد داخل المرحلة تلك كتابات لازالت أسيرة المنهج القديم لغة ومنهجاً ، ولم ترتق الى مستوى الحاجة والمواكبة.
على أية حال إنّ الغالب على الكتابات في هذه المرحلة هو الطابع الاجتراري المحجوز في الإطار النظري; رغم بعض الأعمال الفردية التي تستثنى من هذا الإطار، لقد اتّسمت بميزة الاعتزاز والمفاخرة بشخص الإمام، فمازال الغرب يطرح ابطاله ، فعلام لا نطرح أبطالنا طرحاً يؤكد وجود عباقرة في تاريخنا الإسلامي؟ لكنها تبقى جهوداً تهدف الى ابراز قوة الحضارة والمعتقد ، وهذه الانتاجات العلمية لا تخلو من أنها لازالت في موضع الدفاع وليس لها دور في البناء والتنمية والتغيير وكأنها تريد اقناع المسلم المعتقد بالمذهب وتتحرك تحت هذا الهدف. ولما كان الهدف بهذه الحدود ـ حدود الاعتزاز ـ فهذا من جهة يدعو الآخرين أن يعتزّوا بعباقرتهم أيضاً; سواء في داخل الصف الإسلامي من المذاهب الاُخرى أو خارجه، فهي دعوى تؤول الى: (لكم دينكم ولي دين)(1)، بينما تتطلب المرحلة هدفاً أعلى تريده وتستهدف أمراً أكبر من ذلك، لا بل ينبغي أن يستلّ الهدف من العقيدة نفسها بمعنى طرح الإمام وسيرته حين نخاطب أو حين نناقش أو نرد من جهة : (تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله...)(1). طرح حياة وانشطة الإمام كمشروع ومرجع لحل مشكلاتنا وادراك سبل رقيّنا الحضاري، اي منهج يستنهض الواقع ويساهم في تنميته.
ومن سمات إنتاجاتنا التحقيقية في هذه المرحلة أنها تناولت حياة الإمام بلغة الدين وعلم الكلام لا بلغة التاريخ ، أي بمعنى عرض الإمام كدين يمثّل اسناداً للرسالة، وهذا الجهد لابد من إيفائه، لكن الطموح يدعو أن يكون التعامل مع رسالة الأئمة ، ليس فقط بحدود هذه الرؤية بل ينبغي أن لا يكون الأخذ أخذاً تكرارياً بحدود المنقول، وبالتالي ستكون حياة الإمام عاجزة عن العطاء، والحال أن المرحلة تدعونا في كل يوم أن نحاكي حياته، ونستنطقها لنحصل منها على الدروس بهدف البناء والإعمار.
من هنا حاولنا أن نلقي ضوءاً على خيارات الإمام ومنهجه الإصلاحي مع الاُمة ـ بعيداً عن المألوف من الكتابات التي تعتني بالسرد والتوثيق، أو توجيه النصوص ضمن مخطط قد اُعدّ سلفاً ـ وبمستوى ما تتطلبه الحاجة ضمن عدد من الفقرات وبحدود ما تستوعبه المقالة.